السبت، 11 فبراير 2012

هيبة الدولة التي أعرفها




الدارس لمبادئ الإعلام الدولي أو المهتم بظاهرة العولمة أو حتي صادفته ، قد تستوقفه – كما إستوقفتني – إحدي الفقرات اللافته التي تدعو للتفكير . بداية – وأدرك بشاعة الأمر – سأذكر نبذة طفيفة عن مفهوم العولمة . . الأمر يستحق التركيز .

العولمة هى "تعميم نمط حضارى أو ثقافى معين يخص بلداً ما على بلدان العالم أجمع ، أو هي دعوة إلى تبنى نموذج معين . وهي أيضا طموح لاختراق "الآخر" وسلبه خصوصيته ونفيه من العالم . فالعولمة تمارس اختراقاً ثقافياً ، ووسيلة الاختراق الثقافى هى "السيطرة على الإدراك من خلال الصور السمعية البصرية التى تسعى إلى تسطيح الوعى أى جعله يرتبط بكل ما هو ظاهر على السطح من صور ومشاهد ذات طابع إعلامى . وعندما تتم السيطرة على الإدراك يتم "إخضاع النفوس" أى تعطيل العقل وفاعليته والتشويش على نظام القيم ، وتنميط الأذواق وقولبة السلوك . أى أن الهدف هو تكريس نوع معين من الاستهلاك لنوع معين من المعارف والسلع والبضائع .

الواضح الآن جليا – ولا يرجع الفضل لي فالأمر معترف به دوليا منذ زمن – أن العولمة هي بديل لطيف للأمركة ، فواقعيا مَن كانت إحدي حالات إكتشاف النظرية والحالة الأقوي حتي الآن لتطبيقها ، هي الولايات المتحدة الأمريكية . وذلك بحكم سيطرتها الثقافية والإعلامية – والهَوَسية – علي – شبه – العالم بأسره . بإختصار شديد . . المفهوم السابق يوضح معني السيطرة الذي أحاول توضيحه الآن علميا ، وعمليا فهو يشمل كافة مظاهر حياتنا اليوم ، فأي منا لا يكاد يخلو يومه من الإحتكاك بمظاهر العولمة ، كما عرّفتها الكتب ولست أنا . فأنت حين تغسل شعرك بمنتجات بانتين أو هيد آند شولدرز أو تغسل ملابسك بمسحوق تايد أو إريال أو تشتري لأطفالك حفاضات بامبرز أو تغسل أسنانك بمعجون سيجنال تو أو تأكل شرائح بطاطس برنجلز أو تشرب مياه غازية بيبسي أو كوكاكولا أو ترتاد مطاعم كنتاكي أو بيتزا هت أو ماكدونالدز وغيرها أو تدخن سجائر مارلبورو أو تضيف لطعامك كاتشب هاينز أو تشتري الفول الأمريكي المعلب "أمريكانا" أو تنتعش بتكييفات كاريير أو تقود سيارات فورد أو شيفروليه أو تشاهد مرارا أفلاما أمريكية تعرض ثقافة منافية تماما لثقافتك حتي إعتدتها . . فأنت تطبق – أو تطبق عليك – نظرية العولمة .

حسنا ، لنعد الآن لتلك الفقرة التي سبق ونوهت عنها ، تقول . . "سقوط هيبة الدولة وتضاؤل دورها يؤدى – من منظور آخر – إلى استيقاظ أطر (جمع إطار بمعني مرجعية فكرية) الإنتماء السابقة على الدولة والأمة ، أى الانتماء لقبيلة أو طائفة أو جهة أو جماعة دينية مما يؤدى – حتماً – إلى التعصب المذهبى والتقاتل والتناحر ومن ثم تمزيق الهوية الثقافية الوطنية القومية."

دعنا الآن من مفهوم هيبة الدولة العقيم المروج له الآن والمذكور في الجزء الأول من الفقرة ، فلا علاقة للأمر بالجهاز الأمني ولا الحكومات ولا غيرهما . الهيبة بالفعل سقطت – كما سقطت في باقي دول العالم – يوم إستطاعت الولايات المتحدة أن تفرض نفسها علي الساحة ثقافيا وإعلاميا وإقتصاديا ، والإقتصاد حاليا أصبح جزء من الثقافة كما لا نستطيع أن ننكر . أما الجزء الثاني من الفقرة ويتحدث عن إستيقاظ الأطر السابقة فيعني ببساطة مجرد رد فعل طبيعي – متفاوت – للإنسان . جرب أن تعيش حياتك بطبيعية وسط جيرانك ، تذهب لعملك صباحا وتعود ثم تتحدث مع جيرانك هنا وهناك ثم تحتك بأصدقائك ثم تلتفت لمن يناديك أسفل العمارة وهكذا ، حتي يأتي يوما يقرر فيه أحد الجيران أن يمارس الفجور في شقته القريبة من خاصتك ، أو يدع لأولاده من الشباب ما يحثهم علي جلب المصائب لمنطقتك ، ألن تبدأ أنت في التنبيه علي أهل بيتك بأن يغضوا أبصارهم عن هذه الأفعال وأن يعصموا أنفسهم بالتقليل من المرور بجوار ذاك الجار بقدر الإمكان إلي أن يشاء الله تصريف الأمور ، أما بقوة القانون أو بقوة الإنتقال لمكان آخر !

إذن فقد غيرت أنت نمط حياتك نحو الشدة ، نسيت الإعتدال مجبرا ودعتك خشيتك إلي الحذر والتوجس والتعصب لبراءتك وطهارة بيتك التي كانت بالأمس أمرا تلقائيا لا داع لذكره والدفاع عنه ! . . فقد النظام المعتدل هيبته فوجب إتخاذ نظاما آخر أكثر تشددا "أقوي" .

لن أنكر سطحية معلوماتي عن تاريخ الحركات الإسلامية وعلي رأسها جماعة الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية في مصر ولكنني أري الفقرة كاملة الآن تتجسد أمامي ، أعلم أن ظاهرة العولمة ليست بقدم جماعة الإخوان المسلمين "1928" ولكنها بدأت فعليا برأيي بولادة عصر الفضاء الأمريكي الأول عام "1958" ، الذي يسبق بلا شك ظهور الجماعة الإسلامية – الأكثر تشددا – في أوائل السبعينات . راجع معي الآن بقية الفقرة ، الإنتماء لقبيلة أو طائفة أو جهة أو "جماعة دينية" . الواقع أن الإرادة تختلف من إنسان إلي آخر ، فمن تجده ينغمس في ملذات الحياة تجد غيره من يرجع لصوابه ، وتجد غيرهما من يرجع ثم يتخذ موقفا عدائيا تجاه ما جذبه للضلال ، الضلال ذاته والمُضلون ورعاة الضلال ، أي الضلال والشعب والدولة . فقدت الدولة دورها وهيبتها حين لم تستطع الصمود أمام الغزو الثقافي ، فهرع البعض لإنتماءاته القبلية "بتسكين الباء" حتي يتقي شر المفسدة / العولمة / الأمركة . أما الجزء الأخير من الفقرة الخاص بتمزيق الهوية الثقافية الوطنية القومية فهو تفسير لما تدعو إليه الجماعة الإسلامية من عودة لنظام الخلافة وتمزيق الدولة الحالية ، أو إتساعها .

كانت مصر منارة ثقافية منذ قديم الأزل ، وكانت أيضا دولة ذات ثقل حتي نهاية عهد محمد علي "1848" وقبل بداية عهد خلفائه الذين تنازلوا عن ما حققه من مكاسب ، مرورا بتدخل إنجلترا وفرنسا في مصر مع تراكم ديونها حينما أنفق الخديوي توفيق ببذخ ليحول عمارتها للطراز الأوروبي ، حتي إنهيار دولته بإعلان الجمهورية "1953" ، وقبل هذا التوقيت وبعده وحتي الآن بدأ وإستمر الغزو الثقافي الفرنسي والإنجليزي اللذان –  وإن لم يتوافر بهما الإمكانيات الحالية والعالمية اللازمة – حل محلهما الأمريكي الآن بلا منافس .

أنظر معي الآن للمعادلة التالية ثم تابع القراءة . .

نظام معتدل + عولمة (غزو ثقافي) = تعصب للنظام (تشدد)

حسنا ، تخيل معي الآن مجموعة متسابقين في ماراثون للجري ، كل منهم يستعد لبذل أقصي طاقته ، لا يفكر بمن ينافسه وأي تكنيك سيتبع ، فقط يفكر في أنفاسه التي سينظمها وعضلاته التي مددها منذ قليل وأهدافه التي سيحققها في حال فوزه اليوم . تبدأ الآن النفس البشرية في العبث بالمياه الراكدة ، تحث كل متنافس علي التفكير فيما يتفوق به عليه منافسه ويهيئ له أنه خاسر لا محالة . يرد من يرد وتتتابع الصراعات الداخلية حتي يطفو الإقتناع بحتمية سمو أحدهم ، فتُفرز الأنفس المتأثرة طاقاتها السلبية العدائية الدفاعية أيضا . وهنا فالأمر منوط فقط بالمنتصر – فكريا – وكيف سيستخدم إنتصاره ، هل في السيطرة علي الآخرين بتثبيط عزيمتهم وشحن تلك الطاقات ، أم في منحهم الطمأنينة بإرشاداته التي تحترم إختلافهم – وضعفهم – وتسعي لتمهيد الطريق نحو القبول ؟

مهلا الآن ، لنعد للخلف مجددا ولنفترض أن الولايات المتحدة لم تنتصر ، أو لنفترض أنها لم تكن المنتصر وكانت دولة أخري من فعلت . إذن أمامنا الآن إختياران سيحولا دون ظهور التطرف ، أن تسمو الولايات المتحدة عن الصغائر أو أن يتولي الدور غيرها ويسمو أيضا عن ذات الصغائر . ويجدر الإشارة هنا إلي أن الإسلام ليس الديانة – أو الجماعة – الوحيدة التي أظهرت تشددا أو تأثرا بالعولمة حول العالم ، فهناك الحزب الشيوعي الصيني مثلا وغيره من مناضلي الإشتراكية ، وهناك أيضا الجبهة الوطنية في فرنسا التي تناضل ضد العولمة الأوروبية كمفهوم مصغر .

دعنا الآن من الخيال المتعلق بالماضي ولنعد للواقع المتعلق بالمستقبل ، لو أننا أزلنا الآن ، وأعني الآن ، آثار العولمة إما بإنهيارها أو بضغوط المتأثرين بها كما فعلت وتفعل اليابان بثقافتها – كنموذج جيد – وإيران بتطرفها – كنموذج سيئ – فإننا سنعيد للكفة إتزانها من جديد ، سيختفي التشدد الدفاعي لعدم وجود المؤثر الهجومي .

أنظر مجددا للمعادلة التالية الآن . .

تعصب للنظام (تشدد) + محو للمؤثر = إعتدال

لا أدعو الآن للمبالغة في التشدد نحو إتخاذ القرار بإعلان الحرب لإعادة الإتزان ، ولكني أحلم بمحو المؤثرات التي تكفل للغازي – وأعني الغازي – السيطرة علي وطني ، كما يسيطر علي أوطان غيري . نعم أنا أعني المقاطعة ، وليست بمقاطعة الشعوب فقط لمنتجات الولايات المتحدة الأمريكية ولكن بمغادرتها تماما بقرار وطني ، نعم لتُستبدل سلاسل المطاعم بمطاعم وطنية منافسة لرجال أعمال وطنيون – بتنسيق حكومي – كمثال أوّلي . لا أدعو للمقاطعة حتي تختل رفوف الخزانة الأمريكية فتصبح فريسة سهلة ومن قبلها إسرائيل ، ولكني أدعو للمقاطعة لتُمحي آثار التشدد المتمثلة – لدينا علي الأقل – في الإسلام السياسي المعتدل ومن بعده المتطرف ، نعم فالسياسة درجة من درجات التطرف لم تُصبح ملعبا للدين سوي بظهور ما يُثبت للبعض أن الوقت قد حان للتدخل .

أدعو للمقاطعة وأحلم بالمنافسة ، أحلم بالتفوق في كافة المجالات حتي تُطلب سلعُنا وإبتكاراتنا في شتي أنحاء العالم ، أحلم أن تنتشر ثقافتنا جنبا إلي جنب بداخل كل دولة مع ثقافتها الوطنية ، بإحترام لا بسيطرة مفروضة ، أحلم بإعلامنا الهادف المناصر للمظلومين في الأرض والمناضل للمنكوبين في البقاع . نعم . . أحلم بتعريف جديد للعولمة يبتعد عن مفاهيم الإمبريالية ، أحلم بعولمة مصرية ، عولمة تتخذ الجانب الآخر ، التواجد الباث للطمأنينة والمثال والقدوة والإحترام واليد الممدودة ، أحلم بالعولمة النظرية والمصرنة التطبيق .